بالعودة زمنيًا لعام 1990م واحتفالاً بمرور مائتي عام على ميلاده، أقامت فرنسا معرضا بعنوان “ذكريات مصرية”. ضم المعرض ثلاثمائة قطعة أثرية جميعها من اكتشاف “جان فرنسوا شامبليون”؛ وهو ذاته العالم الآثارى الذى ارتبط اسمه بحجر رشيد، ذاك الحجر الأشهر فى الحضارة المصرية القديمة، والدافع الأول لانشاء مايسمى بعلم المصريات، والذى يشهد له عام 2022م أيضًا، اتمام الحجر ذاته مئتين عام على فك رموزه تحديدًا فى 1822م. بل كما تحين مع اطلالة شهر فبراير ذكرى خروج حجر رشيد من مصر الذى قدر له مغادرة أرض مصر فى فبراير عام 1802م، لينتهى به المطاف ضمن جناح الآثار المصرية بالمتحف البريطانى.
تعددت عن هذا الحجر البازلتى الأسود الأحاديث؛ وتوالت كذلك عليه الكتابات والذى يعتقد أنه نسخة من الحجر الأصلى الكائن بعهده فى معبد منف، فيما أمر الملك بوضع نسخ منه فى معابد أخرى كان من ضمنها حجر رشيد حيث؛ كان المعبد الرئيسى أو الثانوى مشيد على بعد ثلاثة كيلو مترات شمال مدينة رشيد، بينما يعتقد البعض أن أصل نسخة رشيد كونها كانت قائمة بمعبد “أتوم” بسايس ثم نقل لموقع الاكتشاف فيما بعد، وعلى أية حال لابد من الاعتراف لنسخة رشيد بقيمتها فهى النسخة الوحيدة الباقية، والشفرة الأولى التى بفكها بدأ فك رموز اللغة المصرية القديمة، كما حان بها اعلان الحضارة المصرية للعالم الأجمع.
هذا الحجر الذى اكتشفه “بيير فرانسوا بوشار”؛ أحد ضباط الحملة الفرنسية عام 1799م مدفونًا فى أساسات قلعة قايتباي الثانية(سان جوليان) قرب مدينة رشيد، ومع موالته الاهتمام من قبل “نابليون بونابرت” حين أمر بطبعه لعدة نسخ؛ لتبدأ رحلة فك رموزه، والوقوف على سر الحضارة المصرية القديمة، مع استقرار النسخة الأصلية منه بمنزل الجنرال العسكري “مينو” بالاسكندرية.
ثم بحلول عام 1801م؛ عام توقيع اتفاقية الجلاء (اتفاقية العريش) يدرج حجر رشيد ضمن هذه الاتفاقية؛ حيث المادة السادسة عشر والتى تتضمن معاهدة تسليم معظم الآثار المصرية التى فى حيازة الجيش الفرنسى الى الانجليز، ليأتى خطاب الرفض من قبل العلماء الفرنسيين الى “مينو” لادراج حجر رشيد ضمن اتفاقية التسليم لما يشهده هذه الحجر من جهودهم العلمية واصرارهم على معرفة أسراره، الى حد اعتباره ملكية خاصة لهم لايحق للقائد العسكري التعامل معها أو اقرار مصيرها مثلها مثل الجيش وعتاده.
وبين وعد “مينو” لتبديل هذا البند واصرار الانجليز على اقراره يأتى شهر فبراير لعام 1802م ليشحن حجر رشيد على متن احدى السفن الانجليزية إلى لندن، وتحديدًا إلى جمعية الآثار المصرية هناك، مع نسخ الحجر الى أربع نسخ وزعت على جامعات (أكسفورد، ايدنبرج، كامبردج، دبلن) ادراكا لأهميته وايمانًا بقيمته، ورغبة فى فك رموزه والاطلاع على أسراره.
ثم تتوقف رحلة الحجر الأصلى الذى يبلغ طوله 114 سم، وعرضه 72 سم، وسمكه 28 سم، وحوالى 762 كجم لوزنه، مع فقدان الجوانب العليا اليسرى واليمنى منه، وكذلك الجانب الأسفل الأيمن منه، حين أهداه الملك الانجليزى “جورج الثالث” ليستقر حتى الآن ضمن جناح الآثار المصرية بالمتحف البريطانى حاملاً ختم:
)Captured by British Army(
لتأتى محطة أخرى فى تاريخ هذا الحجر ألا وهي محاولات فك رموزه؛ والتى بدأت بتوزيع نسخ منه من قبل المتحف البريطانى على المعاهد والجامعات الأوروبية؛ لسرعة دراسة النقوش الواردة عليه. وكانت أولى المحاولات للمستشرق الفرنسى “سيلفستر دى ساسى” أستاذ شامبليون، والدبلوماسى السويدى “أكربلاد” الذى يحسب له قراءة بعض الأعلام بالصفوف الديموطيقية، كذلك الكاتب الإنجليزى “واربرتون”، والباحث الفرنسى “فريه”، والقس الانجليزى “نيدهام”، و”توماس يونج” عالم الفيزياء؛ الذى توصل لوجود علاقة بين الخطين الأول والثانى بالنص أي الهيروغليفية والديموطيقية، كما تعرف على وجود الاطار المتعارف عليه الآن باسم “الخرطوش” حول أسماء الملوك وغيرها من النتائج الهامة.
ومن محاولات يونج إلى الفرنسى النابغة والأكثر ارتباطًا بل واقترانًا شهرة واسمًا بحجر رشيد “جان فرنسوا شامبليون” بعد ما قدم له يونج كل ما توصل إليه من نتائج، وبوضع كامل خبرات “شامبليون” اللغوية السابقة؛ فهو الدارس للغات العديدة والتى منها القبطية التى ساعدته فى الوصول لأهدافه، مع الاستفادة من جهود من سبقوه، ومن خلال رؤية منهجية لديه من الاستقراء والاستنباط والتخمين والمقارنه بين الأسماء فى النص اليونانى والمصرى، اهتدى “شامبليون” إلى قراءة بعض الأسماء من خلال مقارنتها بنفس الأسماء على آثار أخرى مثل؛ “بطلميوس وكيلوباترا”، كما توصل إلى أن العلامات الهيروغليفية لها قيمة الحروف الأبجدية، ثم تمكن من قراءة ومعرفة معنى الأسماء مثل “رمسيس وتحتمس”.
وبوصوله لهذه النقطة أعلن “شامبليون” نتائجه عن أصوات العلامات الهيروغليفية، ثم فى مقدمة كتابه “موجز حول أنظمة الكتابة الهيروغليفية” سجل محاولاته فى قراءة الخراطيش المصرية، وهنا ككلت جهود شامبليون بالنجاح بتاريخ 27 سبتمبر عام 1822م وهو تاريخ اعلان “علم المصريات” كعلم قائم بذاته يُدرس ويُدَرس.
وبفضل جهود شامبليون؛ تمكن علماء المصريات من اعداد ترجمة سليمة لنص حجر رشيد، كما استمرت جهودهم حتى عام 1930 فى تسجيل الآثار المصرية، حين قرر شامبليون زيارة مصر تحت مسمى “بعثة شامبليون وروسيلينى” بين عامي (1928 و 1929م)، ثم “بعثة ليكسبوس” بين عامي (1942و 1945م) اعلانًا لعصر البعثات العظمى إلى مصر. هؤلاء الذين جالوا مصر طولاً وعرضًا لنسخ ورسم الآثار بالمقابر والمعابد والتماثيل، كما جمعت الآثار التى كانت نواة المتاحف الأوربية، ايذانا بظهور علم المصريات حيث الشغف حد الهوس لزيارة مصر ودراسة هذه الحضارة العظيمة.
لم تتوقف جهود وعطاءات شامبليون فى حق الحضارة المصرية حين وفاته، فقد حمل ابن أخيه “مارييت” الشعلة حين نشر المجلدات الأربعة التى تركها “شامبليون” عن وصف الآثار، والتى أصبحت الركيزة الأساسية التى يرتكز عليها علماء الدراسات المصرية القديمة، كما قدم لنا “شامبليون” حفدته هؤلاء العلماء الفرنسيين الثلاثة(ديمترى ميكس، والان جون، ووايف شولان) أصحاب فكرة برمجة اللغة الهيروغليفية، ووضعها على شرائط الكمبيوتر بحيث وضعوا 1500 رمز هيروغليفى على الشريط مع الترجمة الفرنسية والانجليزية.
وكمحطة أخرى فى ذكرى هذا الحجر المتضمن للمرسوم الصادر فى 27 مارس عام 196 قبل الميلاد عن مجمع الكهنة فى منف؛ حيث ذكرى تتويج العام التاسع للملك بطليموس الخامس(ابيفانس203-108 ق.م)، وكشكر له عن هباته للدولة والمعبودات والاعفاءات الضريبية، واعادة بناء ماتهدم من المعابد وغيرها من الأعمال الحميدة. ولاظهار الشكر أصدر المرسوم ليوضع فى المعابد على مايبدو من الدرجة الأولى والثانية والثالثة مكتوبًا بثلاث خطوط(النص العلوي هو الخط الأول من خطوط اللغة المصرية القديمة وهو الخط الهيروغليفى(ماتبقى منه أربعة عشر صف مطابقة لثمان وعشرين سطر من اليونانية)، ثم جاء الجزء الأوسط بخط الديموطيقى الشهير بالخط المصرى الشعبى(وماتبقي منه اثنى وثلاثين سطراً)، ثم جاء الجزء الأدنى من النص باليونانية القديمة اللغة الرسمية للدولة أنذاك(عددهم أربعة وخمسين صف شبه كامل)، ومن المعروف لدى الآثاريين أيضًا أن النصوص الثلاثة ماهي الا نفس النص فى ثلاث خطوط.
محطة أخرى فى ذكرى هذا الأثر هي وجود سبعة كتابات على شاكلة حجر رشيد، وأحيانًا مطابقة لبروتوكوله، وأخرى مختصرة لما جاء للنص، حيث كان الغرض من هذه النسخ التى ربما هناك أخرى منها لم يعثر عليها هو؛ أن يتعرف أكبر عدد ممكن من أهالى البلاد فى الصعيد والدلتا على المآثر التى حققها بطلميوس الخامس
تبقى لدي كلمة أخيرة فى ذكرى هذا الحجر وكوجهة نظر قد تلقى القبول وقد تلقى الرفض لدي البعض أن هذا الحجر ومع فك شفراته والوقوف على مضمونه واسهامه فى اللغة المصرية القديمة يبقى حاملأ لسر آخر؛ فعادة مايروادنى هذا الشعور حين النظر لهذا الحجر ألا وهي؛ ماهو الدافع لكتابة نفس المضمون بثلاث خطوط، لماذا لم يكتفي كهنة منف بكتابته باللغة الرسمية فى ذلك الوقت ألا وهي اليونانية، لماذا كتب بخطين من اللغة المصرية القديمة وهو الخط الهيروغليفى والخط الديموطيقى، بل والأكثر اثارة للجدل لماذا تم ترتيب الخطوط بهذا الشكل حيث البداية للخط الهيروغليفى ثم الخط الديموطيقى وكلاهما خطان مصريان ثم الانتهاء باللغة اليونانية.
وردًا على هذا السؤال وايمانًا باعتزاز المصريين القدماء بقيمة لغتهم وماعية الترتيب واعتبار اللغة اليونانية هي وان كانت فهي؛ لغة المحتل حتى اذا قدم هذا المحتل المزيد والمزيد للمعابد المصرية ومعبوداتها وشعبها، فيظل محتل فى المقام الأول، وان كتب له ماكتب من الشكر والعرفان والثناء على صنيعه، فلا يعنى هذا بأي حال من الأحوال أن تتقدم لغته على اللغة الأم للمصريين، كما لا يمكن لها أن تحل محلها، حتى وان كان التعليق على الكتابة باللغة المصرية القديمة كان ليقرأ هذا المنشور من لايستطيع أن يقرأ باليونانية والعكس صحيح، ولكن بالنظر لذلك الرأي أيضًا؛ اذن لماذا لم يتم الاكتفاء بالخط الهيروغليفى مقابل اللغة اليونانية واستبعاد الخط الديموطيقى، وهو مايدعم التفسير المذكور أعلاه وهو عدم استيعاب المصريين القدماء أن تحل لغة مكان لغتهم ورغبتهم الملحة فى اثبات هويتهم وحفاظهم على تراثهم اللغوي فى أبسط وأضيق الحدود المسموح لهم بها فى أوقات الاحتلال.